
هل يواجه العالم ركودا اقتصاديا جديدا ؟اسباب الانكماش العالمى وتوقعات 2025
هل يواجه العالم ركوداً اقتصادياً جديداً؟ أسباب الانكماش العالمي وتوقعات 2025
مع دخولنا النصف الثاني من عام 2024، تتصاعد التساؤلات بقلق حول مصير الاقتصاد العالمي: هل نحن على شفا ركود اقتصادي جديد؟ وما هي العوامل التي تدفع نحو الانكماش العالمي؟ وكيف تبدو توقعات 2025؟ هذه الأسئلة تُشغل بال الحكومات والمستثمرين والأفراد على حد سواء في ظل مشهد اقتصادي معقد ومليء بالتحديات.
مشهد اقتصادي متقلب: بين الشكوك والانكماش
بعد التعافي غير المتكافئ من صدمة جائحة كورونا، واجه الاقتصاد العالمي موجة تضخم حادة كانت الأقسى منذ عقود، دفعتها سلاسل التوريد المعطلة والطلب المكبوت والسياسات النقدية والمالية التوسعية خلال الجائحة، ثم تفاقمت بفعل الحرب في أوكرانيا وأزمة الطاقة. رداً على ذلك، بدأت البنوك المركزية الكبرى، وعلى رأسها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي، في رفع أسعار الفائدة بشكل حاد ومتسارع منذ أوائل 2022. الهدف: كبح جماح التضخم.
هذه السياسات النقدية المتشددة، رغم ضرورتها لمكافحة التضخم، بدأت تُظهر آثارها الجانبية المتمثلة في تباطؤ النمو الاقتصادي، بل وانزلاق بعض الاقتصادات نحو حالة من الانكماش الفني أو الفعلي في بعض القطاعات. الانكماش هنا لا يعني بالضرورة ركوداً شاملاً (وهو عادةً ما يُعرف بهبوط الناتج المحلي الإجمالي لربعين متتاليين)، ولكنه يشير إلى تباطؤ كبير في وتيرة النمو، تراجع الطلب، وضعف الثقة، وانخفاض الاستثمارات.
أسباب الانكماش العالمي المتشابكة: شبكة من الضغوط
لا يمكن اختزال أسباب الضغوط الانكماشية الحالية في عامل واحد، بل هي نتيجة تشابك عدة قوى كبرى:
1. السياسة النقدية المشددة (ارتفاع أسعار الفائدة): هذا هو العامل الأكثر تأثيراً حالياً. ارتفاع تكلفة الاقتراض يجعل تمويل المشاريع الاستثمارية والتوسع أكثر صعوبة على الشركات. كما أنه يثقل كاهل المستهلكين من خلال ارتفاع تكاليف القروض العقارية وقروض السيارات والديون الاستهلاكية، مما يدفعهم إلى خفض الإنفاق.
2. استمرار التضخم (وإن كان يتراجع): رغم أن التضخم بدأ في الانحسار في العديد من الاقتصادات المتقدمة، إلا أن مستوياته لا تزال فوق مستهدفات البنوك المركزية (غالباً 2%). استمرار ارتفاع أسعار السلع الأساسية والخدمات الأساسية (كالطاقة والغذاء) يلتهم القوة الشرائية للأسر، خاصة الفقيرة والمتوسطة، مما يقلص الطلب الاستهلاكي.
3. المخاطر الجيوسياسية المتفاقمة:
الحرب في أوكرانيا: لا تزال تشكل مصدراً رئيسياً لعدم الاستقرار، تؤثر على أسواق الطاقة والسلع الزراعية، وتعطل سلاسل التوريد.
التوترات بين الولايات المتحدة والصين: المنافسة الاستراتيجية والخلافات التجارية والتكنولوجية تهدد بتجزئة الاقتصاد العالمي (الانفصال عن بعضه البعض - Decoupling) وتعطيل سلاسل القيمة العالمية، مما يرفع التكاليف ويحد من الكفاءة.
بؤر التوتر الأخرى:مثل الصراع في الشرق الأوسط، تزيد من حالة عدم اليقين وتُرهن أسعار النفط.
4. أعباء الديون المرتفعة: وصلت مستويات الديون العالمية (الحكومية والشركات والأسر) إلى مستويات قياسية. مع ارتفاع أسعار الفائدة، أصبحت خدمة هذه الديون أكثر تكلفة بكثير، مما يمتص موارد يمكن توجيهها للاستثمار أو الاستهلاك، ويزيد من مخاطر التخلف عن السداد.
5. تقلبات أسواق الطاقة والسلع الأساسية: بعد الارتفاعات الحادة، شهدت أسواق النفط والغاز والسلع الزراعية تقلبات حادة. هذه التقلبات تُربك المخططات الاقتصادية للدول والشركات وتُساهم في بيئة عدم الاستقرار.
6. تباطؤ النمو في الصين:الاقتصاد الصيني، المحرك الرئيسي للنمو العالمي لعقود، يواجه تحديات هيكلية كبيرة، بما في ذلك أزمة القطاع العقاري، وارتفاع مستويات الديون، وضعف الطلب المحلي، والضغوط الديموغرافية. تباطؤ الصين ينعكس سلباً على الطلب العالمي على المواد الخام والسلع المصنعة.
7. انتقال أثر التباطؤ: تباطؤ الاقتصادات الكبرى (خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين) ينتقل حتماً إلى الاقتصادات الناشئة والنامية عبر قنوات التجارة والتمويل والاستثمارات المباشرة.
توقعات 2025: بين السيناريوهات المتشائمة والنقاط المضيئة
التنبؤ بالمستقبل الاقتصادي محفوف بالمخاطر، خاصة في هذا السياق المعقد. ومع ذلك، يمكن استشراف بعض المسارات المحتملة لعام 2025 بناءً على الاتجاهات الحالية:
1. سيناريو "هبوط ناعم" (Soft Landing): هذا هو السيناريو المرغوب (والمستهدف) للبنوك المركزية. يتضمن نجاح السياسات النقدية في خفض التضخم إلى المستهدف دون التسبب في ركود حاد. بدلاً من ذلك، يشهد الاقتصاد تباطؤاً مقبولاً أو نمواً منخفضاً لفترة، قبل أن يستعيد زخمه تدريجياً مع انخفاض أسعار الفائدة لاحقاً في 2024 أو 2025. توقعات صندوق النقد الدولي الأخيرة (أبريل 2024) تشير إلى نمو عالمي مستقر عند 3.2% لكل من 2024 و 2025، مما يوحي باحتمال معقول لهذا السيناريو، لكنه لا يزال هشاً.
2. سيناريو الركود المتأخر (Delayed Recession): قد لا تكون الآثار الكاملة لارتفاع أسعار الفائدة قد ظهرت بعد بالكامل. هناك قلق من أن التأخير الزمني لسياسة النقد (قد يستغرق 12-18 شهراً) يعني أن أسوأ آثارها قد تضرب الاقتصاد خلال 2024 وتستمر في 2025، مما يدفع اقتصادات كبرى إلى ركود. تراكم المخاطر الجيوسياسية يمكن أن يكون الشرارة التي تشعل هذا السيناريو.
3. سيناريو "الركود التضخمي" (Stagflation): هذا هو السيناريو الكابوسي، حيث يجتمع النمو البطيء أو الركود مع تضخم مرتفع ومستمر. قد يحدث هذا إذا فشلت البنوك المركزية في كبح التضخم (بسبب صدمات عرض مستمرة مثل أزمات الطاقة أو تعمق الانقسامات الجيوسياسية) بينما تستمر سياساتها المشددة في خنق النمو.
4. سيناريو التعافي المتمايز (Divergent Recovery): من المرجح أن يكون أداء الاقتصادات مختلفاً بشكل كبير:
الولايات المتحدة: تُظهر مرونة ملحوظة في سوق العمل والاستهلاك، لكنها لا تزال عرضة لمخاطر ارتفاع الفائدة والتضخم المستمر. احتمالات الركود فيها أقل نسبياً مقارنة بأوروبا، لكن النمو قد يظل معتدلاً.
أوروبا: أكثر عرضة لصدمات الطاقة والتباطؤ بسبب اعتمادها السابق على الطاقة الروسية. الاقتصاد الألماني، القاطرة التقليدية، يعاني بشكل خاص. النمو في أوروبا عام 2025 قد يكون ضعيفاً.
الصين: تواجه تحديات هيكلية عميقة. قد تدفعها الحكومة نحو مزيد من التحفيز، لكن فعالية ذلك محدودة. النمو قد يستقر عند مستويات أقل مما اعتدنا عليه (حوالي 4-5%).
الاقتصادات الناشئة والنامية: ستتأثر بشدة بسياسات الفائدة العالمية (زيادة تكلفة خدمة الديون بالدولار)، وانخفاض الطلب على صادراتها، وتقلب أسواق رأس المال. بعضها (خاصة المصدرة للسلع) قد يستفيد من استقرار الأسعار، لكن الكثير منها سيواجه ضغوطاً مالية واجتماعية شديدة.
النقاط المضيئة والتحديات البارزة في أفق 2025
لاستقرار التدريجي للتضخم: المؤشرات تشير إلى أن ذروة التضخم قد مرت في معظم الاقتصادات المتقدمة. هذا يمنح البنوك المركزية مساحة للنظر في وقف رفع الفائدة أو حتى خفضها لاحقاً في 2024 أو 2025، مما قد يدعم النمو.
قوة سوق العمل (في بعض المناطق): لا تزال معدلات البطالة منخفضة تاريخياً في اقتصادات مثل الولايات المتحدة، مما يدعم الدخل والاستهلاك.
الاستثمار في التحولات الهيكلية: قد توفر الاستثمارات الضخمة في مجالات مثل الطاقة النظيفة والتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي والسيارات الكهربائية، دفعاً للنمو على المدى المتوسط، رغم أنها قد لا تمنع التباطؤ القصير الأمد.
مرونة سلاسل التوريد: تعمل الشركات والحكومات على بناء سلاسل توريد أكثر مرونة وتنوعاً، مما قد يخفف من الصدمات المستقبلية.
التحديات:
عدم اليقين الجيوسياسي: يظل العامل الأكثر صعوبة في التنبؤ والتحكم، وقادراً على عكس أي توقعات إيجابية.
مخاطر الديون: المستويات المرتفعة للديون في ظل بيئة أسعار فائدة أعلى هي قنبلة موقوتة للاستقرار المالي، خاصة في الاقتصادات الناشئة والفقيرة.
تجزئة الاقتصاد العالمي: استمرار اتجاهات الحمائية وإعادة توجيه التجارة على أسس جيوسياسية يهدد برفع التكاليف وخفض الكفاءة وإعاقة النمو العالمي على المدى الطويل.
التباين الكبير: الفجوة بين الاقتصادات المتقدمة والنامية، وبين الأغنياء والفقراء داخل المجتمعات، تتعمق، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
الخلاصة: اليقظة والحذر مع بصيص أمل
الإجابة على سؤال "هل يواجه العالم ركوداً اقتصادياً جديداً؟" ليست قطعية بنعم أو لا. الأرجح أن العالم يواجه فترة مطولة من النمو الضعيف والانكماش في بعض القطاعات والمناطق، مع ارتفاع مخاطر الركود في بعض الاقتصادات، خاصة إذا تفاقمت الصدمات الجيوسياسية أو إذا كان تأثير رفع الفائدة أقسى من المتوقع.
توقعات 2025 تشير إلى استمرار هذا المشهد الصعب، مع احتمالات متواضعة لتحسن تدريجي في النمو لاحقاً في العام إذا استقر التضخم وبدأت البنوك المركزية في تخفيف السياسة النقدية، ونجح الاقتصاد العالمي في تجنب صدمات كبرى جديدة. النمو المتوقع من قبل المؤسسات الدولية (حوالي 3.2%) هو نمو ضعيف مقارنة بمعايير ما قبل الجائحة، ويعكس الضغوط المستمرة.
التحدي الأكبر للحكومات والبنوك المركزية يتمثل في المحافظة على التوازن الدقيق: مواصلة الضغط على التضخم دون إغراق الاقتصاد في ركود عميق، مع معالجة مخاطر الديون وتوفير شبكات أمان اجتماعي للفئات الأكثر تضرراً، والاستثمار في ركائز النمو المستقبلي. أما الأفراد والشركات، فالاستعداد لمواصلة فترة من عدم اليقين والمرونة في التخطيط المالي وإدارة المخاطر يظل أمراً حيوياً.
العالم لا يمر بركود واسع النطاق بعد، لكنه يسير على حبل مشدود فوق هاوية الانكماش والركود. مسار 2025 سيعتمد بشكل حاسم على مهارة صناع السياسات، وتطور الأزمات الجيوسياسية، ومدى مرونة الاقتصادات والأسواق في مواجهة العاصفة المستمرة. اليقظة والحذر، مع تتبع المؤشرات الاقتصادية الحيوية، سيكونان مفتاحاً للتنقل في هذه الفترة الحرجة.